فصل: الفصل الخمسون (تابع المواعظ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات ***


الفصل السابع والأربعون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

واعجباً لنفسٍ تدعى إلى الهدى فتأبى، ثم ترى خطأها بعين الهوى صواباً، كم أذهبت زمناً وكم أفنت شباباً، وكم سودت في تبييض أغراضها كتاباً‏.‏

أستغفر الله من نفس طغـت وأبـت *** أبتْ إلى هذه الدنيا فمـا أتـأبـت

جابت لي الشيب أوقات الشباب فمـا *** أجابت النصح لكن سيئاً جـلـبـت

خانت فخابت وما طابت ولا سعدت *** وكم أرابت ورابت ثم مـا رأبـت

ودأبها فـي أمـور غـيرِ نـافـعةٍ *** ولو توافق أمست للنـقـي دأبـت

همت بخير فلم تـعـزم وريثـهـا *** خطب إذا هي في غير التقى رتبت

أما طريق المعالي فهـي واضـحة *** لكل طرف سرى عنه الكرى لحبت

والعالمون جميعاً عالـمـون بـهـا *** على ركائب عن معروفها نكبـت

ألا يسائل أمـلاك الـورى فـطـن *** علام جمعت الأجناد واحـتـربـت

إن الذي طلـبـتـه لا يدوم لـهـا *** ولا مسرة إن فازت بماء طلـبـت

ألم يروا دول الماضين قـبـلـهـم *** كانوا بأحسن ما كانوا بها ذهـبـت

لا تفرحوا بهبات من زمـانـهـم *** ستسترد الليالي كلـمـا وهـبـت

لو أعلمت علمنا الغبراء ما ركـدت *** تحت الأنام أو الخضراء ما ثقبـت

وأم دفـرٍ إذا مـيزت حـالـتـهـا *** كأم صلٍ إذا ما عضت انقـلـبـت

وكيف ترجو صلاحاً من خلائقـهـا *** كلما الناس فيه من أذى جـلـبـت

لله درّ أقوام تأملوا غيبها وما زالوا حتى رأوا عيبها، نزلوا من الدنياء منزلة الأصياف، أخذوا الزاد وقالوا ما زاد إسراف، وقفوا عند الهموم والمؤمن وقاف، رموا فضول الدنيا من وراء قاف، لو رأيتهم في الدجى، يراعون النجوم، وخيل الفكر قد قطعت حلبات الهموم يشكون جرح الذنوب ويبكون الكلوم، أحرقت أحزانُهم أجسامَهم، وبقيت الرسوم بلغتهم البلغ ورمتك التخم في التخوم، سكروا من مناجاة الكريم، لا من بنات الكروم، أصبحت عليهم آثار الحبيب والطيب نموم، هذه سلع الأسحار من يشتري‏؟‏ من يسوم‏؟‏ أين قلبك الغائب‏؟‏ قل لي لمن تلوم‏؟‏ جسمك في أرض العراق وقلبك في أرض الروم، مهر الطبع ما ريض، أهاب البشرية ما دبغ، في عين البصير عشا، عرائس الموجودات ترفل في حلل مختلفة الصنعة والصبغة والصيغة، تعبر إلى المعتبر في معبر الاعتبار، فهل حظك حظها من النضارة أن تحظى من النظر بحظ‏.‏

واعجباً لك لو دخلت بيت ملك لم تزل تتعجب من رقوش نقوشه فارفع بصر التفكر واخفض عين البصيرة، فهل أحسن من هذا الكون‏؟‏ تلمح مخيم السقف كيف مدّ بلا أطناب‏؟‏، ثم زخرف نقشه برقم النجوم، والهلال دملوج في عضد السماء، فإذا جن الليل كحلت العيون بأثمد النوم، واجتلاها أهل ‏"‏ تَتَجافى ‏"‏ فإذا جلى ركب الدجى، جلا ضوء الشمس عن الأبصار رمد الظلام، أنظر إلى الأرض إذا تأيمت من زوج القطر، ووجدت لفقد إنفاقه مس الجدب، كيف تحد في ثياب ‏"‏ وتَرى الأَرضَ خاشعَةً ‏"‏ طالما لازمت حبس الصبر وسكنت مسكن المسكنة لولا ضجيج أطفال البذر، فإذا قوي فقر القفر امتدت أكف الطلب تستعطي زكاة السحاب، فهبت الجنوب من جناب اللطف، فسحبت ذيل النسيم على صحصح الصحارى، فتحركت جوامد الجلاميد وانتبه وسنان العيدان لقبول تلقيح اللواقيح، فإذا لبس الجو مطرفه الأدكن، أرسل خيالة الفطر شاهرة أسياف البرق وأنذر بالإقدام صوت الرعد، فقام فراش الهواء يرش خيش النسيم، فاستعار السحاب جفون العشاق وأكف الأجواد، فامتلأت الأودية أنهاراً، كلما لمستها كف النسيم حكى سلسالها سلاسل الفضة، فالشمس تسفر وتنتقب، والغمام يرش وينسكب، فانعقد بين الزوجين‏.‏ عقد حب الحب، فلا يزال السحاب يسقي ذر البذر‏.‏ بثدي الندى‏.‏ وكلما احتاج إلى فضل قوت كر الرك، وشط الطش، ودق الودق، فطم إلى أن فطم الطفل، فإذا وقعت شمس الشتاء في الطفل، نشأ أطفال الزرع فارتبع الربيع أوسط بلاد الزمان، فأعار الأرض أثواب الصبا وروح كربها بنسيم الصبا، فانتبهت عيون النور من سنة الكرى، فكم نهضت من الغروس عروس بين يديها الأوراق كالوصائف فصافحت ريحها الخياشيم، ومنظرها الحدق، فكان عين النرجس عين وورقة ورق، فالشقايق تحكي لون الحجل والبهار يصف حال الوجل، والنيلوفر يغفى وينتبه، والأغصان تعتنق وتفترق، وقد ضرب الربيع جل ناره في جلناره، وبثت الأراييح أسرارها إلى النسيم فنم، فاجتمع في عرس التواصل فنون القيان، فعلا كل ذي فن على فنن، فتطارحت الأطيار مناظرات السجوع، فأعرب كل بلغته عن شوقه إلى إلفه، فالحمام يهدر، والبلبل يخطب، والقمري يرجع، والمكاء يغرد، والأغصان تتمايل، كلها تشكر الذي بيده عقدة النكاح فحينئذ تجد خياشم المشوق ضالة وجده‏.‏

لي بذات البـان أشـجـان *** حبذا من أجلهـا الـبـاب

حبـذا رياه يوقـظـــه *** من نسيم الفجـر ريعـان

حبذا ورق الـحـمـام إذا *** رنحتها منـه أغـصـان

داعيات بالـهـديل لـهـا *** فيه أسـجـاعٌ وألـحـان

أعجمياتٌ إذا نـطـقـت *** ليس إلا الشـوق تـبـيان

كلما غنيتـنـي هـزجـاً *** هاجني للذكـر أحـزان

ما لي بي ميل الغصون بها *** طربي فالكـل نـشـوان

يا حمام البان يجمـعـنـا *** وجدنا إذ نحـن جـيران

يحن بالشكوى إلي فـمـا *** بين أهل الحب كتـمـان

يتشاكى الواجـدون جـوى *** واحداً والـوجـد ألـوان

أنا مخلوس القرين وأنتـن *** أزواج وأقـــــران

وبعيد الـدار عـن وطـن *** شاقه لـلـبـان أوطـان

آه مـن داء أكـاتـمــه *** والهـوى سـرّ وإعـلان

لا تزدني يا عذول جـوى *** أنا بالأشـواق سـكـران

الفصل الثامن والأربعون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

من علم أن هبات الدنيا هبا حل من غل ذل‏.‏

الدهر مستعـجـل يخـب *** فاختم وطين الكتاب رطب

إن الذي أنت فـيه حـلـم *** وسوف تنساه إذا تـهـب

توقَّ مكر الزمان واحـذرْ *** ولا تثق فالزمـان خـب

جميع أفعـالـه غـرور *** وكل ما نحن فيه لـعـب

وليس يبقى علـيه شـيءٌ *** يكرهه المـرء أو يحـب

أسمع أحاديث من تقضـي *** يا من له ناظر وقـلـب

الدنيا تعطي تفاريق وتسترجع جملاً، وترضع أفاويق وتقطع عجلاً، يواني خيرها وإن واتى لمعا، ثم يأتي شرها حين يأتي دفعا، فترى العبرات عند فقدها تراق ولا ترقا، والزفرات عند سلبها تهد ولا تهدأ، ويحكم أن المفروح به من الدنيا هو المحزون عليه،

إخواني‏:‏ ذودوا هممكم عن مرعى المنى فإنه يزيدها عجقاً، ولا تولوا الهوى على ميدان الأبدان ‏"‏ إنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أوْ أَنْ يُظْهِرَ في الأرضِ الفساد ‏"‏‏.‏ الهوى وثن ينصب في جاهلية الشباب فإن صح إسلام العزم جعل أصنام الشهوات جذاذاً‏.‏

يا معاشر الشباب زيدوا في سلاسل الهوى فإن شيطان الهوى مارد، زنوا حلوى المشتهى بمر العقاب يبن لكم التفاوت، إلى متى يقودكم الهوى‏؟‏ إلى متى تستعبدكم الدنيا‏؟‏‏.‏

للشريف الرّضيّ‏:‏

كم اصطبارٌ على ضيمٍ ومنقصةٍ *** وكَمْ على الذلِّ إقرارٌ وإذعـانُ

ثُوروا لها وَلْتَهُنْ فيها نفوسُكُـمُ *** إنَّ المناقبَ للأرواح أثـمـانُ

إلى متى جمود الإناث‏؟‏ أين الحركة الرجولية‏؟‏‏.‏

للمهيار‏:‏

قم فانتشطْها حسبُها أن تُعقَلا *** ودَعْ لها أيديَهـا والأرجـلا

لا يطرحُ الذلَّ وراء ظهره *** إلا فتىً يُنْضي المطايا الذُّلُلا

الجد الجد فالطريق طويلة، دار الناقة بذكر الدار عللها بصوت الحداة، فإذا لاح لها المنزل فشوقها يسوقها‏.‏

للمهيار‏:‏

إرخِ لها زمامها والأنـسـعـا *** وارمِ بها من العلى ما شسعـا

وارحل بها مغترباً عن العـدى *** توطك من أرض العدى متسعا

يا رائد الظعن بأكناف اللـوى *** بلغ سلامي إن وصلت لعلعـا

ماذا عليهم لو رثوا لسـاهـر *** لولا انتظار طيفِهم ما هجعـا

إخواني‏:‏ انبعاث الجوارح في العمل دليل على قوة العلم بالأجر، فإذا حصل تسليم النفوس في الجهاد إلى القتل كان النهاية في كمال اليقين، فإذا وقع الفرح بأسباب التلف دل على كمال المحبة، كما قال عبد الله بن جحش اللهم سلِّط علي غداً عدواً يبقر بطني ويجدع أنفي، فإذا لقيتك قلت هذا فيك ومن أجلك‏.‏

وطعن حرام بن ملحان، فنفذ فيه الرمح فقال‏:‏ فزت وربِّ الكعبة‏.‏ لو رأيتهم والمعترك قد اعتكر وقد تقدموا في القدموس فانبلج الأمر وجاش جأش الجيش في أُفُرّة فلم يتميز الهلقام السرعرع، من القلهزم الحنزقرة، وإذا الغضنفر الدمكمك والقخر العلندي والضباضب الدلامر كلهم في مقام أجفيل فلما انزعجت الطباع تذكروا قبيح الجناية، فمدوا أيدي التسليم للودايع، فخضب الدماء محاسن وجوه، طال ما صبرت على برد الماء وقت الإسباغ، وحصدت مناجل السيوف زروع روس طال ما أطرقت في الأسحار، وعادت خيولهم خلية عنهم فوطئتهم بعد السنا تحت السنابك، واقتسم لحومهم عقبان السماء وسباع الأرض، فكم من رجل رجل، طالما قامت فصلت فصلت، وكم من يد بالدعاء رفعت وقعت، وكم من بطن حمل بالصيام ما شق شق، وكم من عين كانت تعين الحزين بالفيض وقعت في منقار طائر هذا حديث الأجسام فأما الأرواح ففي دار السلام، والله ما كانت إلا غفوة حتى أعطاهم العفو عفوا عفوه، وكأنكم بأجسادهم التي تفرقت قد تلفقت، وبالقبور التي جمعتهم قد تشققت، وقد قاموا بالسلاح حول العرش ينادون بلسان الحال، عن صاحبه حاربنا ولأجله قتلنا، وكلومهم يومئذ قد انفجرت فجرت، اللون لون الدم والريح ريح المسك، فليعلم الأشهاد حينئذ أنهم الشهداء، اسمع يا من لا يحارب الهوى ولا ساعة فلو فاتتك الغنائم وحدها قرب الأمر، وإنما لقب جبان قبيح، أين أرباب العزائم القوية‏؟‏ امتلأت بالأبرار البرية، رحلوا عنها وفاتوا، ونحن متنا وهم ما ماتوا‏.‏

خَلّي طرفي والبكا إن كنتَ خِلي *** فالحمى أقفر من جـار وأهـل

والح من لم يدر ما طعم السـى *** أنا عن لومك في أشغل شغـل

لم يدع وقر الهوى في سمـعـي *** واعتراضات الهوى باباً لعـذل

غير قلبي أن تأسـى عـاشـق *** للتأسي أو تسلي للـتـسـلـي

أثاف ما ترى تشكـو الـصـلا *** أم قلوب بين حصبـاء ورمـل

هذه من بـعـدهـم آثـارهـم *** والتجافي عن بلى الأطلاب يبلي

ما وقوفي في محـلٍّ سـاكـنٍ *** في فؤادي أهلُه لا في المحـل

يتمنّى طيفُـكُـم صـب لـكـم *** مستهام والمنى جهد الـمـقـل

والذي يستجلب الطيف الـكـرى *** من لعيني أن ترى النوم ومن لي

بعت حلمي طـائعـاً لا كـارهـاً*** بسفاهي فاشتروا عـزي بـذُلـي

وانقضى أكثر عمري في القـلـى*** جفوة منكـم فـرقـوا لـلأقـل

حملوني الخف مـن هـجـركـم*** وارحموا من ما له طـاقة ثـقـل

عجـبـاً لـي ولـقـلـب ضـائعٍ*** بان عنـي بـين بـانـات وأثـل

سل بقلبي عـن خـيام بـالـلـوى*** تاه قلبي في حماها ضلّ عقـلـي

ذات طوقٍ مثل شجوى شجـوهـا*** غير أن ما شكلها في الحزن شكلي

أنا في النوح اضطراراً مثـلـهـا*** وهي في غير اضطرارٍ فيه مثلي

حرم الله على الـبـان الـصـبـا*** وحماه الغيث مـن طـلٍّ ووبـل

ما على السائق لو حـلّ الـنـقـى*** وأراح العـيس مـن شـدٍّ وحـلّ

فعسى تدني المنى مـنـى مـنـي*** ولعلي أن أرى الخيف لـعـلّـي

الفصل التاسع والأربعون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

عجباً لراحلٍ عن قليل غافل عن زاد الرحيل لا يعتبر بأخذ الجيل وإنما هو تأخير وتعجيل، أين النزيل‏؟‏ أزيل‏.‏ أين القويم‏؟‏ أميل‏.‏ أين المطمئن‏؟‏ اغتيل‏.‏

إنَّ الليالي لا تبقى على حال *** والناس ما بين آمالٍ وآجال

كيف السرور بإقبال وآخره *** إذا تأملته مقلوب إقـبـال

تيقظوا فالأيام دائبة، وتحفظوا فالسهام صائبة، واحذروا دنياكم فما هي مواتية، واذكروا أخراكم فها هي آتية، أما رأيتم الدنيا فقد أبانت خدعها ومكرها، إذا بانت من جمعها مكرها، أين الارتياد للسلامة غداً، أين الاستعداد‏؟‏ قبل الندامة أبدا، كأنكم بالمسير عن الربع قد أزف، وبالكثير من الدمع قد نزف، وبالمقيم قد أبين مما ألف، وبالكريم قد أهين لما تلف‏.‏

يا طالب الدنيا دنا فراقهـا *** تزويجها أسرع أم إطلاقها

ودين من يخطها صداقها *** *** عباد الله من تعلق قلبه بالجنة لا يصلح لنا، فكيف بمن يهوى الدنيا‏؟‏‏.‏

أردناكم صرفاً فلما مزجـتـم *** بعدتم بمقار التفاتكـم عـنـا

وقلنا لكم لا تسكنوا القلب غيرنا *** فأسكنتم الأغيارَ ما أنتم مـنـا

السلطان لا يزاحم في داره، ‏"‏ لا يسعني شيءٌ ويسعى قلب عبدي المؤمن ‏"‏‏.‏

غبتم عن العين القريحة فيكم *** وسكنتم في القلب دار مقام

وسلبتم جلدي التصبر عنكـم *** فالصبر أول راحلٍ بسـلام

خرج المريد الصادق من ديار الهوى إلى بادية الطلب، فجن عليه ليل التحير فجن، فإذا نار القرى تلوح إن حملت رجل الرجل‏.‏

للمهيار‏:‏

قد أبصرتْ حقّاً مناها في الحمى *** وظنَّهـا بـحـاجـر يقـينـا

فبَلَغَتْ أدعو لـهـا وبـلَّـغـتْ *** وخانني من لم يقـل‏:‏ آمـينـا

كرب المحب بالنهار يشتده لمزاحمة رقباء المخالطة، فبلبل بلباله يتبلل في قفص الكتم، فإذا هبّت نسيمُ السحر وجد بروحه روحاه يصل من قصر مصر المنى إلى أرض كنعان الأمل، فيقدم ركب الشوق يتجسس النسيم، من فرج الفرج ولَهَ وَلَهٌ، فنهض توق الشوق فتكلم قلم الشكوى، ورقم وصف القوم وحكى ما حاكى، وكنى عن ما كنى‏.‏

عاودَ القلبُ غـرامَـهُ *** وجفا الجفن منـامـه

كلما قلت جوى الشوق *** خبا زاد اضطرامـه

أنا في أسرك والمأسور *** قد يرعـى ذمـامـه

آه من عتبك في اللـيل *** إذا جـن ظـلامــه

سيدي هائمك الحـيران *** قد زاد هـيامـــه

هو ميت غـيران لـم *** تبل في الترب عظامه

كنهاري منذ فارقتـك *** ليلـى لا أنـامـــه

إذا اعتكر الليل اعترك الهم، طال الدجى على الأبدان وقصر على القلوب‏.‏

شكونا إلى أحبابنا طول ليلـنـا *** فقالوا لنا ما اقتصر الليل عندنا

لو رأيت رواحل الأبدان قد أنضاها طول السهر وأضناها، فلما هبت نجدية السحر مدت أعناق الشوق فزال كل الكلال‏.‏

لصردر‏:‏

تزاوَرن عن أذرعاتٍ يمينا *** نواشز ليس يُطعن البرينا

كَلِفْنَ بنجد كان الـرياض *** أخذنَ لنجد عليها يمـينـا

وأقسمن يحملن إلا نحـيلا *** إليه ويُبْلغنَ إلا حـزينـا

ولما استمعن زفيرَ المـشـوق *** ونوحَ الحمام تركنَ الحنـينـا

إذا جـئتـمـا بـانة الـواديين *** فأرخو النسوع وحلّوا الوضينـا

فثَـمَّ عـلائق مـن أجـلـهـا *** مُلاءُ الدجى والضحى قد طوينا

وقد أنبأتْهم مـياهُ الـجـفـون *** بأن بـقـلـبـك داء دفـينـا

دموع الخائفين يحبسها النهار مراقبة الخلق، فإذا جن الليل انفتح سكر الدموع ‏"‏فسالت أودية بقدرها‏"‏ أرواح الأسحار أقوات الأرواح، رقت فرقت حرجد الوجد، وبلغت رسائل الحب ومكروب الشوق يرتاح للرياح‏.‏

يا نسيم الريح هل مـن وقـفة *** تطغي الغلة أو تشفي الأواما

كن رسـولاً بـسـلام عـائداً *** نحو من أنقذني فيك السلامـا

لم تثر شجوى حمامات اللـوى *** بل غرامي علم الشجو الحماما

كانت بردة العابدة تنادي في جوف الليل‏:‏ غارت النجوم ونامت العيون وخلا كل حبيب بحبيبه وقد خلوت بك يا خير محبوب، أفتراك تعذبني‏؟‏ وحبك في قلبي لا تفعل يا حبيباه‏.‏

إن شئت سألت دمع عيني عني *** يخبرك بأنني أسير الـحـزن

منك الغفران والخطايا منـي *** ظني حسن فيك فحقق ظنـي

يا غافل القلب، ما هذا الكلام لك‏؟‏ ليس على الخراب خراج، لا يعرف البر إلا سائح، ولا البحر إلا سابح، ولا الزناد إلا قادح‏.‏

ضمنا يوم تنادوا للـقـا *** موقف يعرفه من عشقا

لما عشقت اللبلابة الشجر، تقلقلت طلباً لاعتناق الرؤس ولثم الخدود، فقيل لها مع الكثافة لا يمكن، فرضيت بالنحول، فالتفت فالتقت‏.‏

حبي والوجد أورياني سقـمـا *** هذا جسمي يعد عظماً عظمـا

دعني والشوق قد كفاني خصما *** يا سهم البين قد أصبت المرمى

الفصل الخمسون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

أخواني‏:‏ من تفكر في ذنوبه بكى، ومن تلمح سير السابقين وانقطاعه شكا، ولا أقلق القلب مثل الحزن ولا نكا‏.‏

عند قلبي علاقة ما تقـضـى *** وجوى كلما ذوى عاد غضـا

وبكاء على المنازل أبلتـهـن *** أيدي الأنام بسطاً وقـبـضـا

من معيد أيام ذي الأثل أو مـا *** قل منها دبنا علي وقـرضـا

سامحا بالقليل من عهد نـجـد *** ربما أقنع القلـيل وأرضـى

مهدياً لي من طيب أرواح نجد *** ما يداوي نكس العليل المنضى

أخواني‏:‏ تفكروا في ذنب أبيكم ونزوله بالزلل، ويكفيكم رمز إلى آدم بأنك عبد، في قوله ‏"‏إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى‏"‏ لأن العبد ليس له إلا ما سد الجوعة وستر العورة، فجاء إبليس يطمعه في الملك، فلما خرج إلى الطمع خرج، نام في الجنة فانتبه وقد خلقت له حوى، فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ قيل‏:‏ من يريد النوم يخلق له ضجيج كفى بالشوق مسهراً، فلما وقع في الزلل طار النوم‏.‏

متى شق جيب الجنح بالبارق الومض *** وهبت قبول فالسلام على الغمـض

بالأمس جبريل يسجد له، واليوم يجر بناصيته للإخراج، ولسان حاله يستغيث‏.‏

حداة العيس رفـقـاً بـالأسـير *** ليغنم نظرة قبـل الـمـسـير

ويا بان الحمى هل فـيك ظـل *** فعند حشاي مزدحم الـزفـير

ويا ريح الشمال بحـق حـبـي *** وصدق هل مررت على الغدير

وهل سحبت على شـيح ورنـد *** ذيولك يا مبلبـلة الـضـمـير

بكى على زلته ثلاثمائة عام حتى سالت الأودية من دموعه، اسمع يا من يضحك عند المعاصي‏.‏

سلوا بعدكم وادي الحمى ما أسالـه *** دمي ودموعي في هواكم أم القطر

وهل ما أراه الموت أم حادث النوى *** وهل هو شوق في فؤادي أم الجمر

كان يقول لولده‏:‏ يا بني طال والله حزني على دار أخرجت منها، فلو رأيتها زهقت نفسك‏.‏

قف فتلك الطلول *** وابكها يا رسول

واقر عني سلامي *** من عليها نزول

رب سكـان دار *** في فؤادي حلول

فاسأل الدار عنهم *** واستمع ما تقول

لي وللبين فيهـم *** شرح حال يطول

قد كفاني غرامي *** لا تزد يا عـذول

لست أدري إذا ما *** لمتني ما أقـول

خلفوني معـنـى *** والمعنى حمـول

قيل له‏:‏ رد إقطاعنا فحل الإقطاع بجناية لقمة، فلما غسل آدم جناية الجناية رد الإقطاع عليه، لولا لطف ‏"‏فتلقى‏"‏ لقتله الأسف‏.‏

من لي من لي بوصل حب نازح *** لو بيع بمهجتي لكنت الـرابـح

صالح من عاش بالأماني صالح *** سامح في النقد يا حبيبي سامـح

يا من جرى عليه ما جرى على أبيه، اسلك طريقه من البكاء‏.‏

خل دمع العين ينهمـل *** بأن من تهواه فاحتملوا

كل دمع صانه كلـف *** فهو يوم البين مبتـذل

اكتب قصة الندم بمداد الدموع، وابعثها مع ريح الزفرات، لعل الجواب يصل برفع الجوى‏.‏

كيف لا أبكي على عيش مضى *** بعت عمري بحقير الـثـمـن

كيف أرجو البرء من داء الهوى *** وطبيبي في الهوى أمرضنـي

انتبه لنفسك يا من كلما تحرك تعرقل، فيك جوهرية السباق ولكن تحتاج إلى رائض، قلبك محبوس‏.‏ في سجن طبعك، مقيد بقيود جهلك، فإذا ترنم حاد تنفس مشتاق إلى الوطن، فالبس لامة عزمك وسر بجند جدك، لعلك تخلص هذا المسلم من أيدي الفراعنة‏.‏

أبالغوا يشتاق تلك النجـودا *** رميت بقلبك مرمى بعـيدا

فؤاد أسير ولا يفـنـد لـي *** وجفن قتيل البكا ليس بودي

لك الحديث يا معرض، أنت المراد يا غافل، يا مستلذاً برد العيش تذكر حرقة الفرقة، يا من يسلمه موكلان إلى موكلين، ما لانبساطك وجه، إنما تملي عليها رسالة إلى ربك، وما أراك نمل، قبح ما تمل، يا جامد العين اليوم، غداً تدنو الشمس إلى الرؤس، فتفتح أفواه مسام العروق فتبكي كل شعرة بعين عروقها، يبرز يوسف الهيبة فيقد قميص الكون، نفخ الريح اليوم يحرك الشجر، ونفخ الصور غداً يعمل في الصور، ريح الدنيا بين مثير لاقح تثير دفائن النبات وتلقح الأشجار وتثير دفائن الأعمار، وريح الأخرى تلقح الأشباح للأرواح لقراءة دفاتر الأعمار، أين الذي نصبوا الآخرة بين أعينهم فنصبوا، وندبوا أنفسهم لمحو السيئات وندبوا، كان داود الطائي ينادي بالليل، همك عطل على الهموم، وحالف بيني وبين السهاد، وشوقي إلى النظر إليك حال بيني وبين اللذات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب‏.‏

يا مالك مهجتي ووالـي دينـي *** كم ينشرني الهوى وكم يطربني

هجرانك مع محبتي يضنـينـي *** هل تدركني بنظرة تحـيينـي

إذا جن الغاسق جن العاشق‏.‏

طال ليلي دون صحي *** سهرت عيني وناموا

كانوا يتراسلون بالمواعظ لتقع المساعدة على اليقظة، كصياح الحارس بالحارس‏.‏ يا نيام السحور‏:‏ للمصنف‏:‏

عرجوا بالرفاق نحو الـركـب *** وقفوا وقفة لأنشـد قـلـبـي

وخذوا لي من النقيب لمـاظـاً *** أوردوا بي إلى العذيب وحسبي

فهبوب الرياح من أرض نجـد *** قوت روحي وحبذا من مهـب

يا نسيم الصبا ترنم على الـدوح *** بصوت يشجي وإن طار لبـي

من معيد أيامنا بلوى الـجـزع *** وهيهات أين مني صحـبـي

الفصل الحادي والخمسون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

أين اللاهون بالمزاح زاحوا‏؟‏ أين شاربوا الراح راحوا‏؟‏ وبك ويك يا صاح، لقد ندبوا في قبورهم على الونى وناحوا‏.‏

يا أيها الواقف بالـقـبـور *** بين أناس غيب حـضـور

قد سكنوا في حديث معمور *** بين الثرى وجندل الصخور

ينتظرون صيحة النـشـور *** إنك عن حظك في غرور

أين أرباب المناصب‏؟‏ أبادهم الموت الناصب، أين المتجبر الغاصب‏؟‏ أذله عذاب واصب، لفت والله الأكفان كالعصائب، على تلك العصائب، وحلت بهم آفات المصائب إذ حل بلباتهم سهم صائب، فيا من يأمن يتقلب على فراش عيوبه، مزمار ومزهر ومسكر ومنكر، فجاءه الموت فجاءة فأنساه ولده ونساءه، وجلب مساؤه ما ساءه، فنقل إلى اللحد ذميما، ولقي من غب المعاصي أمراً عظيما‏.‏

بينا تـراه غـادياً رائحـاً *** في نعـم غـادية رائحة

إذا بيوم طالح مـخـرج *** من خبئه آماله الصالحة

كم سالم صحته مـوتـه *** وقائل عهدي به البارحة

أمسى وأمست عنده قـينة *** فأصبحت تندبـه نـائحة

فكن من الدنيا على صيحة *** واينا ليست به صـائحة

من كانت الدنيا به برة *** فإنها يوماً له ذابـحة

واعجباً، لمن رأى هلاك جنسه ولم يتأهب لنفسه قال البازي للديك‏:‏ ليس على الأرض أقل فاءاً منك، أخذك أهلك بيضة فحضنوك فلما خرجت جعلوا مهدك حجورهم ومائدتك أكفهم، حتى إذا كبرت صرت لا يدنو منك أحد إلا طرت ها هنا وها هنا وصحت، وأنا أخذت مسناً من الجبال فعلموني ثم أرسلوني، فجئت بصيدي فقال له الديك‏:‏ إنك لم تر بازياً مشوياً في سفود، وكم رأيت في سفود من ديك‏؟‏ أخواني الزهد في الدنيا زبد، مخض محض الفكر، حظ الحريص على الدنيا في الحضيض، والقنوع في أعلى الذرى، سائق الحرص يضرب ظهر الحريص بعصا التحريض، فلو قد عصى الهوى كفت العصا، كلما زاد على القوت فهو مستخدم الكاسب يا موغلاً في طلب الدنيا الحساب حبس، فإن صح لك الجواب تعوقت بمقدار التصحيح، وإن لم يصح فمطورة جهنم‏.‏

ويحك، طالع دستور عملك ترى كل فعلك عليك، من وقف على صراط التقوى وبيده ميزان المحاسبة ومحك الورع يستعرض أعمال النفس، وبرد البهرج إلى كير التوبة سلم من رد الناقد يوم التقبيض‏.‏

ويحك، سلطان الشباب قد تولى، وأمير الضعف قد تولى، ومعول الكبر يحصد حيطان دار الأجل، وحسبك داء أن تصح وتسلما، قف على ثنية الوداع نادباً قبل الرحيل على ديار الإلفة‏.‏

يا منزلاً لم تبل أطـلالـه *** حاشى لأطلالك أن تبلـى

والعشق أولى ما بكاه الفتى *** لا بد للمحزون أن يسلـى

لم أبك أطلالك لكـنـنـي *** بكيت عيشي فيك إذ ولى

كان ثابت البناني يستوحش لفقد التعبد بعد موته، فيقول‏:‏ يا رب إن كنت أذنت لأحد أن يصلي في قبره فأذن لي‏.‏

وكان يزيد الرقاشي يقول في بكائه‏:‏ يا يزيد من يبكي بعدك عنك‏؟‏ من يترضى ربك لك‏؟‏

أحبكم ما دمت حـياً وإن أمـت *** فواكبدي من ذا يحبكم من بعدي

لما علم المحبون أن الموت يقطع التعبدات كرهوه لتدوم الخدمة، جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام ليقبضه فلطم عينه، فإذا قامت القيامة باد إلى العرش طالت غيبته فاستعجل استعجال مشوق كانوا يحبون أماكن الذكر ومواطن الخلوة، والمؤمن ألوف للمعاهد عهد عند المحب لا ينساه، اسكن حراء‏.‏

احبسا الركب بوادي سلـم *** فبذاك المنحنى طل دمـي

وانشدا قلبي في سكـانـه *** فمن السكان أشكو ألمـي

أخذوا قلبي وأبقوا جسـدي *** فوجودي بعده كـالـعـدم

صل محباً جفنـه لـم ينـم *** وابلائي أن خصمي حكمي

واعجباً للمحب يستر ذكر الحبيب، بذكر المنازل، وما يخفى مقصوده على السامع ‏"‏أحد جبل يحبنا ونحبه‏"‏‏.‏

ألا اسقني كاسات دمعي وغنني *** بذكر سليمى والرباب وتنعـم

وإياك واسم العامرية إنـنـي *** أغار عليها من فم المتكـلـم

رياح الأسحار تحمل الرسائل وترد الجواب‏.‏

للخفاجي‏:‏

أفي نجد تحاورك القـبـول *** أظن الريح تفهم ما نقـول

تغنت في رحال الركب حتى *** تشابهت الذوائب والـذيول

صحبنا في ديارهم صباهـا *** يناوبها التنفس والنـحـول

وأمطرنا سحاب الدمع حتى *** حسبنا أنها مهـج تـسـيل

وعجنا ذاهلين فما علمـنـا *** أنحن السائلون أم الطلـول

ديار الأحباب درياق هموم المحبين على أنني منها استفدت غرامي، كان قيس إذا رحلت ليلى تعلل بالآثار واستشفى بالدمن واستنشق الصبا وشام برق بني عامر‏.‏

أقتل أدواء الرجـال الـوجـد *** وق نجداً فالـغـرام مـجـد

حيث الرياض والنسـيم أنـف *** ودنف ما يستـفـيق بـعـد

إن الصبا إذا جـرت قـادحة *** نار الغرام ففـؤادي الـزنـد

تعدى المحبين الصبا كأنـمـا *** لها على أهل الغرام حـقـد

لا تتـلـق نـفـحة نـجـدية *** هزلا فهزل النفحـات جـد

دع الصبا فعل الهواء كالهوى *** سيان منه قصـره والـمـد

ما كبدي بـعـدك إلا جـذوة *** لها بترجيع الحـنـين وقـد

يسترها الجلد ولولا أدمـعـي *** ما كان قط ستر نار جـلـد

كيف ببرئي والطبيب ممرضي *** يصد والداء العضال الـصـد

 

النار قلبي والسموم نفـسـي *** والماء طرفي والتراب الخـد

قد كنت أخفى عن عيون عذلي *** كذا وجود العاشقـين فـقـد